كان أحمد جالسا بمنأى عن الناس و قد وضع يديه على جبينه ليداري بهما ألم رأسه الذي إشتدّ عند منتصف الحفل. حقا إن هذا الرجل لا يعطي للفن قيمة، بل و يقول إنه “لم يجلب لنا إلا العار”. و يتساءل أصدقائه إن كان يشملهم دائما بقوله “لنا”، و نهروه مرّة قائلين: “لم يجلب الفن لأوروبا العار و إن قصور خلفاء كانت مرتعا للفن العربي الأصيل”.
وارتعش قلبه عندما تسلّلت من الخارج نسمة هواء باردة و ترامى إلى مسمعه صوتٌ يُنشد “يا حبيبي، كلّ شيء بقضاء. ما بأيدينا خُلقنا تُعَسَاء. ربما تجمُعنا أقدارُنا ذات يوم، بعد ما عزّ اللقاء. فإذا أنكر–” تذكر أحمد أن الحفل لا يزال قائما و شعر بالجمهور يموج بعضه ببعض و تعالت هتافات تهليل و تكبير و فقدت سيّدات وعيهنّ و وقف الرجال الباشوات يقولون: “إسم الله عليكِ يا أم كلثوم!”
ضاق صدر أحمد. خرج ليأخذ فسحة من الهواء فرأى حارس الصالة جالسا يُنصتُ إلى ما تبثّه سمّاعة المذياع التي إلتصقت بأذنه. كانت أيام حرب و أخبار متضاربة تأتي من فلسطين، أرض المعركة. سلّم على الحارس و أشعل سيجارة و أخذ شهيقا عميقا. أثار فضوله الصوت الذي يصدر من المذياع. وجدت كلمات الأغاني منفذا إلى رأسه إذ تسرّبت كنسمة ربيع من خلف باب صالة الحفل. ضاق ذرعا بالحارس الذي إمتنع عن إبعاد المذياع عن أذنيه، فقال تبّا له! أسند ظهره على حائط مجاور و إستسلم تفكيره للاشيء. إمتزجت في رأسه أصواتٌ حسبها هذيان “و من الشوق رسولٌ بيننا، و نديمٌ قدّم الكأس لنا … معارك ضارية .. و من الشوق رسول بيننا .. يا لخيبة الأمل .. و نديم قدّم الكأس لنا .. بالسلاح جوي .. هل رأى .. المجازر .. سُكارى؟ .. أدت إلي هزيمة حاسمة–” و انقطع صوت المغنّية لمّا غرق الجمهور بالسُكر و راح يردد بصوت واحد أبيات من الشعر كأنما نزلت على قلب رجل واحد “هل رأى الحب سُكارى، سُكارى .. مثلنا؟ هل رأى الحب سكارى، سكارى … مثلنا؟ كم بنينا من خيال–“. واستوقفه فجأة مشهد الحارس تنهمر من عينية الدموع بغزارة. مذهولا كمن رأى شبح الموت وقف أحمد يحدّق إلى المذياع الذي تطايرت شظاياه في أرجاء المكان، و تسائل مُستغربا: مجنون؟!
ضرب سيجارته هو الآخر بعرض الحائط و مضى في سبيله تاركا الحفل بمن فيه، و حنجرة تغرّد من وراءه “و إذا أنكَرَ خلٌّ خِلّه و تلاقينا لقاء الغُرَبَاء … هل رأى الحبُّ سُكارى مثلنا؟”
وجهة نظر
سألجأ من الآن و صاعدا على توضيح المعاني التي أرمي إليها في كتاباتي التي أقر بأنها قد تبدو غامضة لمن لم يكن الأدب مجال دراسته. قد ألجأ للنقد الأدبي أو أكتفي بتعليق أو وجهة نظر بسيطة تعقيبا على ما أكتبه، و أعتقد أن في ذلك منفعة لمن يطالع الأعمال الأدبية بإستمرار.
كتبتُ هذه القصة و أنا أخطط لها منذ شهور عديدة و أنتظر الفرصة التي تسمح لي أن أجمع أفكاري لأخرج بها بهذا الشكل. واستوحيتُ مضمونها المبني على التناقض من قصة بعنوان: قناع الموت الأحمر (The Mask of Red Death) للكاتب الأمريكي الذي أعشق كتاباته و أسلوبه الأدبي Edgar Allan Poe و أناقش فيها عدة مواضيع رئيسية:
1- القضية الفلسطينية
2- دور الفن العربي في بناء الأجيال
3- السطحية و السذاجة
القضية الفلسطينية في أوج حرب 1948 حين إجتمع العرب على قتال الصهاينة، كان العرب مشغولون بتعبئة بطونهم و أرواحهم بملذات الحياة، و كانوا مشغولون بتنظيف كراسيهم و توطيد سلطتهم .. و جميعها أمور لم تخدم الصراع العربي الإسرائيلي. و لهذا لم ينتصروا. قمتُ بتجسيد هذه الصورة في مقاربة بين جمهور غارق في السُكر و بوّاب تشغله أوضاع الحرب بين العرب و الصهاينة في فلسطين. قارنوا ذلك مع بريطانيا التي شاركت في العالمية الثانية، كان الشعب فيها يتبرّع بالمعالق و بأسوار بيوته الحديدية و كل ما لديه لخدمة جيشه الوطني و كانت المصانع تعيد تدوير تلك المواد ليُصنع منها الطائرات و الأسلحة الثقيلة.
الفن، لا أريد أن أذكر أسماء، إنما أتسائل، ما الدور الذي يلعبه الفن حاليا في بناء مجتمعات تؤمن بقضية و تحارب من أجلها؟ ما دامت الحناجر تهتف فينا “وا وا” فعلى الدنيا السلام. إنها لقلّة أدب أن يحظى النديم بحُب الشعراء في زمن الحرب!
السطحية و السذاجة حدّث فيهما و لا حرج. أنظر كيف أن النساء يُغمى عليهنّ و الباشوات تُسكرهم الألحان. أكاد أجزم أن نصف ما يُغنّى حاليّا سراب يذهب جفاء. كلمات فارغة من المعاني. إنها لا تساوي شيئا في الميزان الأدبي، إنما قد تُعجب شركات الدعارة التي تدعم تلك المغنيّات و ترزقها المال و الشهرة، و لكن ليس الثياب!
أسئلتي لكم أيها الثوّار
1- كيف فهمتم القصة؟
2- كيف تفهمون عنوان القصة؟
3- ما الفكرة التي كوّنتموها عن أحمد؟
4- ما رأيكم بمقولة “لم يجلب لنا إلا العار”؟
5- لماذا ضرب حارس الصالة المذياع بعرض الحائط؟
6- هل أعجبتكم الصورة التي صممتها للقصة و هل تعبر عن مضمونها؟
أصحاب الإجابات الصحيحة سيربحون كيسا من الكعك تقدمة مني! [x O]