تحضرني صور من زمن الطفولة الذي عشته في القرية بكثرة هذه الأيام .. تلك الحقبة التي عشتها وقد لا يختبرها أطفال الغد في زمن البلاي ستايشن والانترنت والآيفون. وبالرغم من أن هذه التغيّرات ساهمت في تسهيل جانب كبير من حياة الناس، وأنها صارت جزءا من حياتهم ولن يستغنوا عنها بملء إرادتهم، فإنني أعتقد أن الحياة كانت قبل أعمق وكانت معاني الأشياء فيها أجمل .. وأخص في حديثي نمط الحياة في القرية.
كنا نشاغب
أذكر حين كنت طفلا عندما أجتمع مع مجموعة من الأصدقاء في العيد، فنكون قد جمعنا مبلغا من المال لنشتري به المفرقعات وأذكر منها الأسهم النارية. كنا ننقسم إلى فريقين ونعلن الحرب على بعضنا البعض فيحتمي كل فريق وراء جذوع الأشجار والصخور، وكنا نمسك السهام بأصابعنا بطريقة فنّيّة :] لنصوّبها نحو الفريق الآخر وكانت ثيابنا تتعرض للحروق أحيانا من جراء شرارة السهام. وحين ننتهي من اللعب عند غروب الشمس نخبّئ الحروق قبل الدخول إلى المنزل.
وكنا أيضا نصنع المقلاع، حيث نقص قنينة الماء البلاستيك الكبيرة نصفين بالسكين، فنأخذ الجزء الذي فيه فتحة القنينة، فنُزيل منها الربطة الصغيرة التي تكون موجودة حول الفتحة، ثم نجلب بالونا سميكا فنُدخل فيه فتحة القنينة ثم نعيد الربطة لمكانها لكي تثبّت البالون (صورة توضيحية). وبعد ذلك نجمع الحصى، فنضع حصاة واحدة في القنينة بحيث تستقر داخل البالون، ثم نشدّ البالون إلى الخلف مصوّبين الحصاة باتجاه الخصم، ثم نقذفها .. فتنطلق كالسهم. وكانت هذه من الألعاب المبكية و الموجعة جدا !
وكانت وسيلة التنقل لنا كأطفال الدراجة الهوائية، نسير بها على الطريق المعبّد وفي الحقول حيث يوجد مختصرات. ولأن الدراجات الهوائية كانت تلقى منا استعمالا يفوق طاقتها، كانت تتعطل كثيرا .. وكان حظ أحدنا سيئا إن كان في مكان بعيد عن المنزل وثُقب إطار دراجته الهوائية.
و نذهب إلى الصيد
حيث لا يخلو بيت في قرى لبنان من بندقية صيد. أكثر الناس يمارسون الصيد كهواية وأكثرهم بشكل عبثي..
بأية حال، .. كنت صغيرا حين كان يصطحبني والدي معه إلى صيد الطيور. أمشي أنا خلفه أحمل الماء وبعض الطعام، وهو يحمل البندقية والخراطيش (جمع خرطوشة) و “التعليقة” التي يعلّق عليها العصافير بعد اصطيادها وذبحها. كنتُ أحب أن أذبح العصفور بنفسي، حيث آخذ ريشة من جناحه فأدخلها في عنقه ثم أطويها وأقطع بها قصبته الهوائية. وكان يوم عيد حين يصاب العصفور بطلقة في جناحة فيسقط حيّا، فأحمله طوال الطريق ثم نذبحه في نهاية المطاف.
كان والدي من محبّي رياضة المشي وكنت أنا عاشقا للطبيعة وأحب التعرّف على مناطق جديدة. كنا نقطع الوديان ونتسلق الجبال، وأحيانا نسلك أنهارا فنشرب منها، ونختبئ من المطر حين تمطر ونشعل النار إذا اشتد البرد .. ونستمر على هذه الحال لساعات إلى أن نعود إلى السيارة من طريق غير التي بدأنا مشوارنا منه.
و نخرج إلى الحقل
نطيّر طائرات الورق، وقد كتبت عن تلك التجربة هنا. يميّز البيوت في القرى أنها تقع وسط الحقول الشاسعة والوديان، وهي مرتعنا كأطفال، نلعب فيها كرة القدم أو ألعاب أخرى تتطلب القفز والجري والاختباء .. ونتسلّق أشجار الإجّاص واللوز والزعرور ونجمع الأعشاب. وكان أولاد و بنات الحيّ الذي نقطن فيه يجتمعون فنذهب بأنفسنا وأحيانا برفقة الأهل إلى الحقل لتناول الغداء و شوي اللحم والدجاج على نار الحطب. وكنا أثناء الليل نجتمع لنلعب المونوبولي أو الطرنيب.
وفي فترة لاحقة كنت أخرج لوحدي إلى الحقل في رمضان من أجل أن يمضي الوقت بسرعة، فأجمع بعض الأعشاب (كالمريمية التي أحب أن أشربها مع الشاي) وأتأمل المناظر الطبيعية .. وكنت أصطحب معي كاميراتي لألتقط الصور.
ومن المفارقات أن المسافات لم تكن تعني لنا كأطفال شيئا. كنا نتنقل مشيا على الأقدام بشكل يومي فنقطع مسافات طويلة لمجرّد اعتيادنا على الأمر ولأن الحقول كانت تختصر الطريق بين الأحياء السكنية.
ولم تكن حياة الحقول خالية من المغامرات. ففي إحدى المرّات التي كنت فيها أمشي في الحقل، دُستُ بقدمي على خليّة نحل سقطت على ما يبدو من شجرة، فسارع النحل إلى صب غضبه عليّ دون أن يترك لي مجالا للهرب. وقد لطف بي الله إذ لم أصب بأذى. ولم تكن تلك الحادثة الوحيدة التي أتعرض فيها لجهوم من النحل.
وتعرّضت عدة مرّات لهجمات من الكلاب، إذ كان الناس يربّون كلاب الحراسة ويتركونها طليقة ليلا ولم تكن الشوارع مضاءة بشكل مستمر بسبب مشكلة انقطاع الكهرباء الموجودة منذ أن وعيت على الدنيا حتى يومنا هذا. ولازلت أذكر حجم الرعب الذي ينتابني حين يركض الكلب ورائي إلى أن يقرر هو أن يتراجع.
و نخيّم
في أماكن بعيدة عن البيوت السكنية، إما في الحقل أو على شاطىء البحر، فأقضي الليل مع الأصدقاء ساهرين، متحلّقين حول النار التي نشعلها للتدفئة و لشوي البطاطا وتحضير الشاي. و يدور بيننا “التحشيش” والضحك والأحاديث المتنوعة.
و نربّي الدواجن
يعتمد سكان القُرى بشكل عام على أنفسهم في تأمين جزء لا بأس به من قوتهم اليومي. فالبيض مثلا كنّا ننتجه من خلال تربية الدجاج، وكنتُ أنا وأخي نواظب على العناية بها وتأمين الطعام لها بشكل يومي.
ومن الأشياء الجميلة التي أحبّها في القرى، أن فضلات الطعام في منزل التي لا تصلح للأكل (مثل الحبوب المطبوخة والخضراوات والفواكه إلخ..) لا تذهب هدرا في أكياس الزبالة، بل نطعمها للدجاج أو القطط أو الحيوانات الأخرى .. حتى بذور الثمار نرميها في الحديقة على أمل أن تنمو في فصل الربيع.
وكان لي تجارب في تربية الحمام على سطح المنزل، وتربية طائر السمّان (و نسمّيه في لبنان: الفرّي) .. وكانت تلك الطيور أيضا مصدر إنتاج للبيض واللحم في فترة من الفترات.
و نزرع الحديقة
لا يخلو بيت في القرية من حديقة مزروعة بالأشجارة المثمرة. حديقة بيتنا مزروعة بالتين واللوز والدرّاق والحمضيات والأكي دنيا والرمّان والتوت والجوافة والعنب والصنوبر والقشطة. وكنت أعتني بها حين كنت صغيرا فأقوم بسقايتها خلال فصل الصيف الجاف.
وكان التركيز في الزراعة على ما يكثر استخدامه في أطباق المنزل، كالليمون الحامض، وكذلك الأعشاب والخضراوات، كالنعناع والبصل.
وقد بدأت أهتم جديّا بزراعة الحديقة لاحقا خلال سنوات الدراسة الجامعية، فزرعتها من جميع أنواع الخضراوات، وكانت أطباق الطعام في بيتنا لا تكاد تخلو من عنصر مصدره الحديقة. وقد استنتجت عن تجربة أن الخضراوات والثمار التي تباع في الأسواق لا علاقة لها بما تنتجه الحديقة من حيث الجودة والطعم و الرائحة.
وقد استولت الزراعة حينها على معظم وقتي بالممارسة و التعلم، فقررت أن أستغل اهتمامي بتصميم المواقع الإلكترونية و دراسة الأدب الإنكليزي لإنشاء موقع زراعي هو الآن من أشهر المواقع الزراعية العربية: موقع زراعة نت الذي تأسس سنة 2005.