تزاورت الشمس عن الحظيرة تجاه المغرب. ضجّ المكان بالثغاء إعلانا عن اقتراب موعد تناول وجبة الغداء. انتظر الجميع حركة أو إشارة من كبير الخِراف توحي بالسماح لهم بالخروج لكنه ظلّ جالسا، طارحا جسمه على كومة من القش سارحا بفكره في عالمه الخاص يراقب بطرف عينيه تحركات بضع نعجات سمان، وعندما سمع الخراف يتناجون ويتأفّفون من شدّة الجوع تحرّك من مكانه بعنف وقال: “إبن حرام من سيتخطى منكم بقوائمه باب هذه الحظيرة!” اضطرب القطيع على الفور، فسكتوا كأنهم رأوا الموت جهرة!
لا يمكن أبدا لأحد من أفراد القطيع أن ينسى ذلك اليوم الذي وقف فيه خروف أبيض نحيل تحايل عليه رفاقه فاستغلوا بساطته وأقنعوه بأن يقف في وجه كبير الخراف ليقول له كلاما مهينا يُنقص من قدره ويسلب منه كرامته على مرأى من الجميع. ولما فعلها وظنّ القطيع أن كبيرهم قد أهين وأن وقت الثورة قد حان، وجدوا الخروف الأبيض النحيل في اليوم التالي مصلوبا خارج الحظيرة وقد سُلخ عنه صوفه. لم يتجرّأ أحد حينها أن ينطق بكلمة أو أن يستفسر عن الذي حدث.
وبينما كان الجميع يرتقب عدول كبيرهم عن قراره بعدم الخروج، كان الخروف الأسود الصغير مختبئا خلف الخراف في زاوية الحظيرة يسترق النظر. ولما لم تحمله نفسه على الصمود أكثر أمام الجوع بكى فضجّ صوته في أرجاء المكان.
في هذه اللحظة لا يصحّ البكاء. وقفت الخراف تنظر إلى كبيرها وهو يستمع إلى صوت بكاء الخروف الأسود باهتمام، وكأنه مستأنس بالصوت. مرّت دقيقة لم يرمش فيها جفن في القطيع حتى قال كبير الخراف بصوت غليظ وحازم “أسكتوه!”
لم يصادف على مر السنين أن تُنجب أي من النعاج في الحظيرة خروفا أسود. كان وجوده في الحظيرة يشكّل صدمة للقطيع، حيث إن لونه الغريب يبعث على الشعور بالخزي والحقارة. وفوق هذا كلّه، إنه -كما يدّعي الجميع- مجهول الأب!
إلا أن أحدا في القطيع لم يحاول أن يوجّه كلمة خبيثة إلى الخروف الأسود، أو أن ينظر إليه نظرة احتقار، أو أن يرمي أمّه بتهمة الزنا.
إن الذي حيّر عقول القطيع خلال السنوات الماضية كان سكوت كبيرهم عن الجريمة التي اعتبروها غير قابلة للشك. وإن كان لهذا الخروف الأسود أب فأين هو؟ و كيف دخل الحظيرة دون علمهم؟ وقد حدث مرّة أن أنجبت إحدى النعجات في ليلة من ليالي الشتاء حَمَلا أبيضا جميلا دون علم أحد، فلما أرادت أن تُخفيه خارج الحظيرة أصرّ على العودة ملتمسا الدفئ بين أبناء قومه. و لما عرف كبير الخراف بأمره صرخ بالقطيع “فلتخرج الزانية منكم وتقف أمامي”، فخرجت دون تردّد ناشدة الرحمة والعفو لكن القرار بقتلها و وليدها كان قد صدر.
و هكذا نمت بين أفراد القطيع أحاسيس الريبة والخوف. و ما زادهم رُعبا هو حديث أحد الخراف عن نظرية ضلوع كبيرهم في الجريمة، لذا سكتوا جميعا وأقسموا أن لا يتبادلوا الحديث في هذا الأمر أبدا. وقال خروف آخر بعد ذلك إنه رأى بقعة صوف أسود صغيرة في إحدى قوائم كبير الخراف الخلفيّة، لكن أفراد القطيع نهروه وحذّروه من أن يثير مثل هذه الأفكار مرة ثانية. لكن أكثر ما كان يغيظ القطيع هو الاهتمام الزائد الذي كان يُبديه كبيرهم تجاه الخروف الأسود وتجاه أمّه بشكل خاص. كان يقترب منها فيجعلها ترعى بجانبه و هو الأمر الذي لا يحدث إلا لمن ينوي كبير الخراف اتخاذها زوجة، لكن ذلك كان مستبعدا في نظرهم.
وفي إحدى الجلسات التي دعا فيها كبير الخراف أفراد القطيع للسهر والتسلية، أخذ يحدّثهم عن الفضيلة وقيمة العفو والرحمة، ثم علا صوته متأثرا بالشراب المُسكر الذي كان يحتسيه فنهَرَ الحاضرين قائلا: من منكم بلا خطيئة؟!
كانت النعجة أم الحمل الأسود تدخل عليهم لتقدّم لهم الطعام والشراب خلال السهرة، وكانت كلما دخلت عليهم خفَتَ صوت كبير الخراف وراحت عيناه تتفحّص تحرّكاتها. كانت تتحاشى النظر في أعين الساهرين، إلا كبيرهم فإنها سمحت لنفسها أن تنظر إليه بطرف عينيها، نظرة فيها شيء من الخوف والشفقة.
مرّت الأيام، ازداد حقد القطيع على الخروف الأسود وأمّه. وما زادهم حنقا عليهما سوى ما كانوا يشاهدونه من تصرّفات تصدر عن كبير الخراف تجاههما اعتبروها صبيانيّة. وفي يوم من أيام الربيع حين كان القطيع يرعى خارج الحظيرة وكان كبيرهم يلعب مع الخروف الأسود ويداعب أمّه، اتفقوا على أن يضعوا حدّا لهذه المهزلة. فلما حلّ الليل كانت مجموعة من الخراف قد عزمت على أن تخطف الخروف الأسود وأمّه عند منتصف الليل فتأخذهما إلى مكان بعيد خارج الحظيرة وتقتلهما دون أن يشعر بهم أحد. واتفقوا على أن يقولوا لكبيرهم إن النعجة وابنها قد هربا. ولما فعلوا فعلتهم وعبق الهواء برائحة الشّواء وارتفع غناء السُكارى بين أشجار الغابة حدث ما لا يتصوّره أحد.
رجع مساعدو كبير الخراف في صباح اليوم التالي وقد بدت عليهم ملامح التوتّر الشديد والتعب و كان معهم جثّتين وجدوهما في الغابة، إحداهما لخروف أسود والأخرى مشوّهة بالكامل. ساد جوّ من الرعب في الحظيرة وانبعثت رائحة الدم في أرجاء المكان وبدا لكبير الخراف أن لا مجال سوى للإنتقام، فصاح بصوت ارتجفت له قوائم القطيع كله: “فلتحلّ اللعنة الكُبرى على من قام بهذا العمل الدنيئ!”.
استيقظ القطيع بعد يوم من الحادثة على مشهد مريب لن ينسوه أبد الدهر، وكانوا قد أمضوا ليلتهم يتسائلون عن سبب تأخّر العقاب وعن الذي ينوي كبيرهم القيام به، فإذا بهم يجدون أشلاء خراف منثورة في كل مكان وقد قُطّعت ومُزّقت بحيث لم يصدّق أحد أن ما حدث واقع حقيقي. ثم أمر كبير الخراف بأن تُرسل إليه جميع النعاج واحدة كل ليلة لتسلّيه انتقاما للنعجة المقتولة، وزاد على ذلك بأن منع الذكور في الحظيرة من الخروج للرعي مدة أسبوعين كاملين.
استطاعت الخراف بعد ذلك أن تصمد أمام بطش كبيرها وشعرت بالخزي والإنكسار لسنين طويلة، وتعايشت بعد ذلك مع حال الواقع وصَبَرت وسلّمت أمرها للقدر، حتى جاء يوم هبّ فيه إعصار عنيف فاقتلع الحظيرة من مكانها.