لا أحمل من أيام الطفولة الكثير من الذكريات العظيمة و لا الطمأنينة التي عثرت عليها في وقت لاحق من عمري. أما الطفولة فيجب أن أفرد لها مقالة خاصة، وأما أيام المراهقة فجئت أتحدث عنها اليوم.
تمهيد
إن الهدف من كتابتي عن أيام المراهقة هو حبّي للكتابة بالمقام الأول، كونها نوع من العلاج النفسي الذاتي (كما يقول فرويد). ثم إنني أكتب ليطلع الآخرون على لمحة من الماضي الذي عشته، فأنا شاب لم ينشأ من فراغ، بل من تجارب الأيام.
و هناك أحداث كثيرة مضى عليها زمن طويل ولم يعرف عنها أحد شيئا، و لربما البوح بها الآن مناسب، خاصة وأنها أصبحت مجرّد ذكريات. و أحداث أخرى سأبقيها محفوظة في مقبرة الذكريات -دماغي- إلى حين يأتي الوقت المناسب للحديث عنها، و قد أنساها.
تلميذ مراهق
حدث ذلك قبل 6 سنوات، كان العام الدراسي الأخير في المدرسة قد بدأ، وكنتُ في حالة نفسيّة يرثى لها، وكنتُ أظهر أمام أصدقائي بمنظر لا يعكس حقيقة ما يجري في داخلي.
كان مدرّس مادة الإجتماع الرجل الوحيد الذي يتحاور مع تلامذته، وكانت تظهر عليه ملامح الوقار، فقال لنا مرّة: إذا كان أحدكم يود أن يقصّ عليّ مشاكله فسأكون سعيدا لسماع ما يقول وسأعينه على حلها. ذهبتُ إليه وتحدّثتُ إليه سرّا بأنني سأكتب له مشكلتي على ورقة وسأعطيه إياها في اليوم التالي، فرحّب بالفكرة.
رحت إلى البيت وشرعتُ أكتب على ورقة بيضاء ملخّص عن سيرة حياتي، فاستهلّيتُ الحديث بنظرة عامة عن أيام طفولتي وما تخلّلها من مشاكل عائلية، ثم شرحتُ له طباعي وأشياء من الحياة اليومية تقضّ عليّ مضجعي.
وأذكر أنني تلقيت منه إجابة مكتوبة -الأمر الذي فاجأني- ذكر فيها نصائح عامة كنتُ في قرارة نفسي أعرفها.
صليب على رقبتي
تدور أحداث هذه القصة في السنة نفسها حيث كنتُ أحب أن أقترف أشياء تجعلني أثور وأنتفض. حصلتُ على صليب فلبستُه على رقبتي بشكل مخفيّ وذهبتُ إلى المدرسة و لما خلعته لم يكن أحد قد رآه ولم يدري بتلك الحادثة أحد! كنتُ أظن أن التلامذة لو رأوني بهذا المنظر سيُعجبون بجرأتي، رغم أن الأمر ليس له أي علاقة بالدين، ولكن شيئا من هذا لم يحدث.
الحب الوهمي
ومضت الأيام، كان قلبي فارغا، وأنا معرّض في أي وقت لإقتراف الحماقات، وإن كنتُ أظهر في كثير من الاحيان بمظهر المنضبط العقلاني بين أصدقائي. كانت الفتيات في مدرستي المختلطة تحوم في فكري دائما، وقد صودف أن وقعتُ في “حب” العديد منهنّ، ولربّما كانت بيننا أحاديث كثيرة، لكنني لم أتجرأ أن أصارح إحداهن بشيء. كنت فقط أبني القصور والأبراج في مخيّلتي.
عواصف التغيير
حدث أن عدتُ يوما في تلك السنة من المدرسة ففتحتُ درفة خزانتي وأخرجتُ منها سجادة الصلاة، و منذ حينها قررت أن أكون شخصا آخر. هكذا ببساطة حدث التغيير، بكل هدوء ودون الكثير من التردد، ودون أن يكون ذلك ناتجا عن حدث كبير استدعى هذا الفعل منّي.
ما حدث بعد ذلك كان مجرّد مصادفات غريبة، لكنني الآن عندما أستعيد شريط السنين الماضية أتيقّن أن كل شيء كان مخطط له، فالعناية الإلهية ليست ببعيدة عن حياة كل إنسان، لكن أحيانا نتأخر في اكتشاف دورها في حياتنا اليومية.
سنين الجامعة
التغيير لا يكون بين يوم وليلة، لذا مررت بالكثير من التحولات الفكرية (وبالتالي الشخصية) خاصة أيام الجامعة، إلا أن واحدة من المشاكل التي كانت تؤرقني ظلت تلازمني وهي الخجل غير المبرر و الذي كنت أعاني منه منذ صغري.
وتعرّفت على صديق كان الشاب الوحيد في الصف (راجع قصته) وكانت تربطنا أشياء عديدة، رغم الاختلافات الكثيرة فيما بيننا. وعندما عرفتُ أنه يتعاطى الأدوية العصبية طلبت منه أن يدلني على الطبيب الذي كان يتداوى عنده. وذهبتُ وإياه إلى الطبيب فوصف لي بعد لقاء دام أقل من 5 دقائق دواء قائلا “خذ حبة كل يوم”.
كنتُ حينها أتعمق أكثر في القراءة في مجالات كثيرة، منها النفسية، واتضح لي أن الدواء لا يمكن أن يكون العلاج لأي مشكلة نفسية، وأنه لا يعدو عن مجرّد “مساعد” على الحل.
وذهبتُ بعد سنة إلى طبيب ثاني وصف لي دواء آخر يخفف من سرعة دقات القلب في حالات الضغط والإجهاد (stress).
وبالرغم من أن الدواء ساعد على تخفيف وطئة مشكلة الخجل والإجهاد عليّ، وبالرغم من أن الجرعات التي كنت أتناولها يمكن أن يتناولها أي إنسان لمواجهة مصاعب الحياة اليومية أو لمشاكل أخرى مثل تشنج العضلات، فقد قرّرت أن أتوقف عن تناول الدواء. خلال فترة قصيرة كنتُ قد تخليّت عن الدواء كليّا، ورأيتُ أنه من الضروري أن أعتمد من تلك اللحظة فصاعدا على إرادتي الشخصية لتخطي كل ما يواجهني من مشكلات.
و مع مرور السنين، تغيّرت أشياء كثيرة. ثم بدأت أكتب عنها!