كان يوم الجمعة ثقيلا على قلبي إذ يجدر بي أن أستقيظ لأستحم وأسير إلى مسجد في وسط الضيعة لأستمع إلى خطبة معلّبة مفادها أن “بوش” شرير.. وهكذا استمرت الجمعة بعد الجمعة حتى جاء اليوم الذي حدث فيه تغيير جذري في المسجد.
كل الطرق لا تؤدّي إلى المسجد
كانت الطريق إلى المسجد في قلب الضيعة يملؤها الضجيج، فلا المحلات تُقفل ولا الناس يكترثون في بلدة يُجمع الأكثرية أنها “مُسلمة”، وكان بائعوا الخضراوات يرمون بضاعتهم البالية في وسط الطريق وكانت شرفات المنازل التي تطل على الطريق المكان الأمثل لكي تلقي منه ربات المنازل ما لذ وطاب من القمامة. ولا يخلو الأمر من صياح وكلمات نابية تجري على لسان هذا أو ذاك، وكأن الحياة وُجدت لسواد أعينهم.
ثم سافرتُ. لازلتُ أذكر كيف اقترح عليّ ذاك الرجل الذي جاء من أقصى الأرض بلهجته الإنكليزية الأصيلة “صديقي، إذا أردتني أن أوقف السيارة إلى جانب الطريق في أي وقت كان لكي تؤدي صلاتك فافعل ذلك من دون خجل”. وقال لي في مشهد آخر: “أنظر إلى القمامة كيف هي منثورة هنا. سأعاود زيارة هذا المكان الأسبوع المقبل وسأحرص أن أزيلها لأنني أشعر بالأسى عند رؤيتها”… قالها وقد كنّا حينها نتسلق الجبال في قلب الصحراء! كنت مستغربا في كلا المشهدين.
الأطلال
لقد كانت ضيعتي فيما مضى من أجمل القرى في منطقة “جبل لبنان” بطبيعتها الخلابة وبيوتها المبنية من الصخر الذي يعلوه القرميد الأحمر، وينابيع الماء العذب، وأحراش الصنوبر، و”الزيّ العربي” الذي يميزّه الشروال والطربوش; مصدر فخر لمن عاشر جيل جدّي رحمه الله. وكانت بيادر القمح ومغازل الحرير ومعاصر الزيتون مصدر رزق الناس الذين اعتمدوا على زراعة القمح والأعناب وتربية دود القز وتجارة القماش والحرف اليدوية. وكانت ضيعتي عامرة بالزهّاد الذين حفظوا القرآن ودوّنوه بأيديهم عندما لم تتوفر لهم إمكانية طباعته، وكانوا من أتباع الطُرُق الصوفية ولعلّ هذا ما أحتاج أن أتعمّق في معرفته واستكشافه في المرحلة المُقبلة.
كانت الأيام مليئة بالصعوبات والمشقات وكان هناك أخطاء، لكن الحياة كانت ذات قيمة، وهذه القيمة -التي يمكن أن نسميها بَرَكَة- متجسّدة في كل شيء: في مذاق لحم الخروف الذي يرعى في الجوار، وفي طعم حبات الكوسا والخيار والبندورة والبطيخ واللوز والرمان والزيتون وما نما في حديقة المنزل الخلفية والصغيرة، وفي لبن البقر الذي كانت تحلبه النساء والرجال، وفي زقزقة العصافير التي تملئ أجواء الصباح، وفي صوت المؤذّن الذي ارتفع فوق مئذنة شامخة صلبة متكبّرة عمرها مئات السنين.
حكايات جدّتي
قالت لي جدّتي مرّة، كنتُ أخرج إلى العين فأقطع طريقا طويلة ووعرة في الحقول لكي أملئ جرة الماء ليستحمّ به أولادي السبعة وجدّك العائد من السفر بعد غياب دام أشهر كان مسافرا فيها إلى سوريا أو الأردن أو فلسطين لتجارة القماش. وأستخدم الماء في الطبخ وفي صنع العجين الذي سأخبز منه خبز “المرقوق”.
تزوجّت وهي صغيرة، كان عليها أن تخضع لعادات ظالمة بحق الفتيات سادت نتيجة سنوات الإنحطاط الفكري والإقتصادي التي أصابت الدولة العثمانية في نهاية عهدها وما تلاها من إستعمار. لكنها صبرت، وكافحت، ولا أنسى اليوم الذي كانت فيه على فراش الموت وقد تركت عليها مسيرة ما يزيد عن ثمانين عاما من الجهاد آثار اطمئنان -أو هكذا بدت لي- وأشار إليّ أحدهم وأنا أقبّل جبينها وهي في سكرة الموت، فسألها: هل تعرفين هذا الشاب؟ كنت واثقا أن جدتي لن تخذلني.
كان قلبي يقفز فرحا عندما تقص عليّ أخبار شبابها، وكنت أحب أن أسمع منها عبارات من جيل مضى، اكتشفت لاحقا أنها عبارات تركية دخلت العربية عن طريق الحكم العثماني. سألتها عن مراسم الزواج وحال الفتيات في شبابها فقصّت عليّ أشياء حسبتها للوهلة الأولى محض خيال. كانت الفتاة بحسب قولها لا تخرج من بيتها في سن الرابعة عشر إلا محتشمة وعلى رأسها “منديل”، وكانت الأفراح تقام بالطريقة التي توصف الآن بالتقليديّة، حيث أن الرجال والنساء منفصلون عن بعضهم. هذا ما أجده قائما ليومنا هذا في دول الخليج.
ثم حلّت اللعنة..
على نسق رواية الحرافيش لنجيب محفوظ، لم تمر أعوام حتى أخذتْ الدنيا تتغير شيئا فشيئا. خفتت أصوات الطيور، جفّت مياه الينابيع، راحت يد الإنسان تبطش بالطبيعة. المحلات التي كانت بالأمس تدرس القمح وتغزل الصوف والحرير استحالت مقاهي يلتقي فيها الشباب لتمضية الوقت في “الكلام الفارغ” على رأي المصريين، وفي لعب القمار! وتحوّل الزي العربي إلى زي أعجمي، وسقط المنديل، و شبّ الأطفال على حليب “نيدو” ووجبات كنتاكي، وتحوّلت معاصر الزيتون إلى عدد من المحلات التي تستورد العنب المعصور، وغاب المنشدون الذين يذوبون في أبيات الشعر الصوفي وحل مكانهم من اعتاد لسانه على السب والشتم (بدءا بالأم والأخت، مرورا بالنبي، ووصولا إلى السماء). أما بيوت القرميد التي كانت تعكس روح الناس الجميلة والمتذوقة للفن فحلّت مكانها مربّعات من الإسمنت الرمادي الذي يوحي بالموت. هكذا تغيّر كل شيء في ضيعتي دون أن أدري متى وكيف ولماذا.
كل ما أعرفه هو أن تشخيص الحالة التي أمر بها تدعى الـ epiphany.
في الحلقة المُقبلة: إذن فليسقُط بوش.