في صبيحة السادس من أغسطس (آب) عام 1945، أقلعت طائرة من طراز B-29 من جزيرة تينيان و توجّهت شمالا نحو اليابان إلى مدينة هيروشيما لتصفية الحسابات – تلك المدينة الإستراتيجية التي احتوَتْ حوالي 300 ألف نسمة من ضمنهم 43 ألف جندي ياباني.
المشهد الأول: المشوار
حلّقت الطائرة التي كان يقودها العقيد بول تيبتس1 فوق إرتفاع منخفض ثم ارتفعت تدريجيا لتصل إلى 9 آلاف متر قبيل وصولها للهدف. و إذ بقنبلة مصنّعة من اليورانيوم [صورة]، وزنها يفوق الأربعة طن (لديها قوّة إنفجار تعادل 15 ألف طن من الـ TNT)، اسمها الولد الصغير2 ، إذ بها تسقط في تمام الساعة الثامنة و الربع صباحا على مدينة هيروشيما، و على الفور، حلّقت الطائرة بعيدا عن المكان لتفادي أي موجات صدميّة (shock waves) ناتجة عن قوّة الإنفجار. بعد 43 ثانية من إنزال القنبلة أضاء انفجار عظيم سماء المدينة، و جعل عاليها سافلها!
المشهد الثاني: على الأرض
أحاول أن أتخيّل المشهد على طريقتي: كان (تسي تونج وا) متوجّها إلى متجره الذي يبيع فيه الحلوى و يفكّر في يومه و في الحرب التي أهلكت إقتصاد بلده و هو يردد “اللعنة على الساعة التي تحكّم فيها الأشرار في هذا العالم بمصير البسطاء مثلي. ما ذنبي أنا بما يحدث لبلدي؟” و بينما هو غارق في مثل هذه الأفكار تناهى إلى مسمعه صوت أطفال يلعبون في آخر الشارع، كانوا يضحكون و يغنّون الأغاني المبهجة، و تراءت له صورة ابنته الصغيرة و هي تبتسم له و تقول “بابا”. شعر بالإطمئنان و أكمل طريقه مستسلما لقوّة يعلم أنها في السماء لكنه يجهل هويّتها.
كان يوما عاديا في هيروشيما، إذ كانت المدينة بعيدة عن أجواء الحرب. كل شيء فيها ينبض بالحياة. الذين كانوا بالقرب من مركز الإنفجار، أولائك توفّوا على الفور و تحوّلوا إلى فحم أسود. أما الطيور فاحترقت في الهواء من شدّة اللهيب. الضوء الناتج عن الإنفجار كان شديد البياض بحيث يحجب الرؤية، و يصاحبه موجة حرارة شديدة جدا (حوالي 3980 درجة مئوية). و بعد مرور 9 دقائق على الإنفجار، كان الناس على بُعد 800 متر من مركز الإنفجار قد ماتوا جميعا [صورة]. المباني التي كانت تبعد كيلو ميتر واحد عن مركز الإنفجار تدمّرت بالكامل، أما تلك التي تقع ضمن محيط 5 كيلومتر عن مركز الإنفجار فجميعها تضرّرت [صورة].
لم تعلم الحكومة اليابانية -و إن بعد ساعات من الحادثة- ما الذي جرى بالتحديد. إنقطعت الإتصالات نهائيا مع مدينة هيروشيما في تمام الساعة الثامنة و الربع، ساعة الإنفجار، و انتشرت إشاعة بأن إنفجارا كبيرا قد حدث بالمدينة، لكن القيادة العليا المسلحة نفت أن يكون هناك هجوم جوّي واسع النطاق على المدينة. لم تُعرف معالم الحادثة إلا عندما انطلق مجموعة من الضباط اليابانيين جوّا نحو هيروشيما ليشاهدوا، من على بعد 160 كيلومتر، غيمة من الدخان ترتفع فوق المدينة. لكن المعلومات المؤكدة المتعلقة بالإنفجار جاءت فقط بعد 16 ساعة عندما أعلنت الولايات المتحدة بلسان الرئيس ترومان و الذي ألقى خطابا أذاعته محطات الراديو أن نوعا جديدا من القنابل قد ألقي على هيروشيما -القنبلة الذرّية. ثم هدّد اليابان فيما لو رفضت الإستسلام فإنه سيتم ضرب أهداف جديدة و ستكون الخسائر فادحة.
نصف سكان المدينة ماتوا، أي ما يرجّح بـ 70 ألفا. بعد خمس سنوات من الحادثة وصل عدد الوفيّات إلى 200 ألف نتيجة تفشي مرض السرطان الذي سبّبته الإشعاعات النووية3 .
المشهد الأخير: الخطاب التاريخي
في التاسع من أغسطس، أي بعد ثلاثة أيام من ضرب هيروشيما، كانت الطائرات الأمريكية تُمطر سماء اليابان بمنشورات مكتوب فيها “نحن نمتلك من المتفجّرات الهدّامة ما لم يصنعه بشر من قبل. إن قنبلة ذريّة متطوّرة واحدة تعادل ما يمكن لألفين من طائراتنا العملاقة من طراز B-29 أن تحمل من متفجّرات في مهمّة واحدة. هذه الحقيقة المُرعبة نعرضها عليكم للتتفكّروا، و نؤكد لكم بجديّة أنها -أي القنبلة- بالغة الدقّة. لقد بدأنا للتو في إستخدام هذا السلاح ضدكم، و إن كان لديكم شك في هذا فاسألوا عن الذي حدث في هيروشيما عندما سقطت عليها قنبلة ذريّة واحدة”.
في غضون ذلك، كانت القوات المسلّحة الأمريكية تنتظر صفاء الجو لإرسال طائرة جديدة إلى اليابان – طائرة ستحمل معها قنبلة جديدة بإسم جديد4 لتسطّر أعظم وحشيّة عرفها التاريخ. ألقاكم في المرّة المقبلة في مدينة ناكازاكي.
نُشر في جريدة “الجريدة” الكويتية بتاريخ 24\6\2008
http://www.aljarida.com/aljarida/Article.aspx?id=117520