شعرتُ بلهيب الشمس يصفع جلدي و فتحتُ عيناي لأكتشف بعد كثير من المشقّة الذهنيّة بأن الصوت الذي أسمعه هو صوت أمواج البحر المتكسّرة و أن تلك الأخشاب المتناثرة على مرأى منّي هي بقايا حطام زورقي. ها أنا إذن ممدّد على الرمل، حاولتُ الحراك فلم أستطع.
و بينما أنا أحاول تبصُّر المكان من حولي، تذكّرتُ ما جرى تلك الليلة عندما خرجتُ و أصدقائي لنرمي شباك الصيد فهاج البحر على غفلة منّا، فجرفنا التيّار سريعا إلى عرض البحر لساعتين أو ثلاث حتى وجدنا أنفسنا بالقرب من شاطئ صخري. هنالك تيقّنتُ بأن مصيرنا الهلاك.
حاولتُ جاهدا أن أقف و لكن رجلي اليمنى على ما يبدو مكسورة، و يدي اليسرى أصابها جرح عميق، و فور إدراكي لحالي الذي يُرثى له، ضحكتُ. بدأ الألم يشتدّ، أنا على قيد الحياة! و تذكّرتُ ما حدث قبل أيام عندما أعطاني صديقي حبّة دواء، قال تناولها و ستأخذكَ إلى الجنّة!
إن شيئا ما يشتعل، و لا بد أن يكون جلدي! أريد أن أحتمي تحت شجرة و لكن لا أثر للأشجار هنا. إن الألم لم يعد يُحتمل. إقتربت الشمس من المغيب، لازلتُ آمل أن يظهر أحد أصدقائي محمد أو عمر أو إبراهيم فينتشلني من هنا، و لكن الذي حَضَر مجموعة طيور كاسرة راحت تحوم فوقي! قلتُ في نفسي: يا لسخرية القدر، إن كان البحر لم يلتهمني فتلك الطيور حتما ستفعل ذلك! رحماك يا رب! إنّي جائع و أريد كوبا من الماء.
حل الظلام بسرعة، ترقّبتُ تلك الطيور طوال ساعة بقلق شديد لأكتشف أنها لم تأتِ إلى هنا من أجلي بل من أجل شيئ ما في آخر الشاطئ. حالما إكتشفتُ ذلك، إنتابني نوبة من الرّعب، شرعتُ أصرخ بأعلى صوتي و الدموع تنهمر من شدّة الألم: محمّاااااااااد؟ عُماااااااار؟ إبراهيييييييم؟ إني جائع و أتألّم. هل يوجد هنا أحد لكي ينقذني؟ أريد ماء أريد ماء ..
ما يدريني إلا و أنا أستيقظ في ساعة من الليل لم أعرف ما هي بالتحديد. و استوقفني صوت كلاب تعوي آت من خلف الشاطئ. خفق قلبي لوهلة، ثم إرتاحت نفسي إذ بدا لي أن هناك بصيص أمل. قد يكون هذا المكان مسكونا بالناس، و لكن كيف سيجدونني و أنا غير قادر على الصراخ و الحركة؟
ذرفتُ دموعي كلّها حتى ظننتُ بأن الموت جاء و قد إشتعلتْ الجهة المقابلة من الشاطئ. سكنتْ جوارحي و أخذتُ أراقب ضوءًا أبيضا آتٍ من بعيد يقترب من ناحيتي. و من شدّة فرحي نطقتُ بأعجوبة “محمّد، هل هذا أنت؟” بدا نحيفا و طويلا إلا أن فرحتي تحوّلت فجأة إلى رُعب شديد عندما لاحظتُ أن النور الأبيض إنما ينبعث من وجه مخلوق غريب!
كلما إقترب هذا الشيء منّي تسارعت دقات قلبي أكثر فأكثر حتى بادرتُهُ بالسؤال قبل أن يصيبني بأذى: من أنت؟ لم يرد! إقترب أكثر، حاولتُ الصراخ إلا أنه رماني بشيء وخزني في جلدي، فتوسّلتُ إليه باكيا: إنني مسكين، أرجوك لا تقتلني أرجوك. و انبسّت من فمه كلمة أربكتني “أصدقاؤك أشقياء”. راقبته و هو يقترب منّي و أنا متجمّد في الأرض، وضع أصابعه على رقبتي و أغرقني في موت عميق.
إستيقظتُ في فراشي، قالوا لقد تغيّبتَ عن المنزل ليومين، أين كنتَ و أين أصدقاؤك؟ هممتُ بالإجابة لكنني عدلتُ عن ذلك. هل أنا حقّا في فراشي؟ لحظة، لقد تذكّرت، ذلك العفريت سحرني؟! و لكن، هذا مستحيل، أنظروا إلى آثار الحروق في جسدي لقد إختفت! و رجلي اليمنى سليمة و يدي تتحرّك كجناح طائر يرفرفر في السماء، و استحلفني أهلي أن أنطق بكلمة و لكن ماذا أقول؟ تذكّرتُ شيئا. ضاقت بي نفسي فصرختُ بجميع من هم حولي “لقد كنتُ في الجنّة!”
إلتقيتُ بأصدقائي محمد و عمر و إبراهيم في اليوم التالي في مقهى الحيّ.
– قالوا: هل ستذهب معنا اليوم؟
– قلتُ بصرامة: كلا. هل علمتُم أنكم أشقياء؟
ضحكوا جميعا بسخرية، أقسمتُ لهم بأن ذلك المخلوق الذي قابلته قال لي ذلك.
– قالوا بتهكّم: لازالتْ آثار الحبّة بادية عليك!
تركتهم و خرجتُ من المقهى و من حينها لم ألتق بهم، و لربّما إختفوا!