كتبت هذه القصة القصيرة منذ أكثر من سنة و نصف، حيث كانت أولى تجاربي في مجال الكتابة باللغة العربية. تصوّر القصة مشهد لأسير يستخدم اليهود معه جميع أساليب العنف لكي يجعلوه ينطق بما يريدون. كنت قد أسميت القصة سابقا “ما أنا بناطق” تشبيها لقول النبي عليه السلام “ما أنا بقارئ”. القصة بالطبع من نسج خيالي لكنني إستوحيتها من مشاهد العنف الوحشية اليومية للجيش الإسرائيلي التي أراها على التلفاز.
كلا أرجوكم، لا طاقة لي عليكم اليوم! لن أنطق بحرف. لا. لا حول ولا قوة إلا بالله. ليس لدي ما أقوله لكم. يا حيوانات! ما لكم لا تفقهون شيئا؟ أقول لكم ليس عندي كلام. يا الله! لقد طفح الكيل. لا أريد لا أريد. أتركوني. لا لا. الله يلعن أبوكم و أبو اللي … يا أولاد القحبة! أتركوني دعوني وشأني.
قال أحدهم: “حسنا دعونا نلعب اللعبة مرة أخرى. و سأحسُم النتيجة هذه المرة. قيّدوه.”
آخ. آخ. آخ. يا الله. ماهذا؟ آخ. يا الله! أتركوني. آخ.
إنطق يا كلب! تكلم! يا إبن — من بعثك إلينا؟ من سيدك؟ قُل و إلا ..
ركعت. سجدت. شهقت بصوت عال. آخ يا الله! لم أعد أشعر بجسدي. ليس – ليس ما أقوله عندي. أتركوني. لا علاقة – لا علاقة لي بالأمر. شهقت مرة أخرى. حسبي الله ونعم .. و تساقطت دموع الألم من عينيّ.
هذا الحيوان لا يفهم بالتروّي. خذوه فأشبعوه ضربا. خذوه من هنا. أبعدوه عن وجهي. لا أريد أن أراه. ضعوه في الزنزانة حتى يتعفّن.
عصّبوا عينيّ وخلّعوني ثيابي وقيّدوا يديّ وقدمي وأرسلوني إلى زنزانة يغشاها الظلام ويخيّم عليها الهواء البارد المُثقل بالرطوبة. مر يوم، و يومان، وثلاثة أيام، وأربعة أيام، وخمسة أيام. لم تُفتح الزنزانة قط. بدأت أسمع دقات قلبي. شعرت بالجدران تتحرك داخل الزنزانة. آمنت بالأشباح. فهمت معنى كلمة جنون. بدأ دماغي يلفظ أفكاره الملحدة. رحت أهلوس على وقع أعصابي المرتعشة. عزفت حالتي عن الإستقرار فلم أعد أميّز إن كنت واعيا أم أتخيّل. و في خضم هذه المعمعة تراءى لي أنني أسمع أصواتا آتية من بعيد.
– شالوم.
– شالوم.
– هذا النجس لم ينطق بعد؟
– لا. أسمع هلوسته. يبدو أنه بدأ يفقد الوعي. ماذا نفعل به؟
– الكلاب تفهم على بعضها!
أشرقت الزنزانة بنور المصباح. إستيقظت فجأة تحت المطر. أين المطر؟ أين أنا؟ من رماني بالماء؟ فتحتُ عينيّ الذابلتين على مشهد تتأهب و تسجد له القلوب رهبة. دخل عليّ كلب بوليسي ودود. ما لبث أن هاجت غرائزه عند سماع كلمة “akhal” حتى هجم عليّ و راح يقبلني بأنيابة الحديدية و يمزق جلدي. إختلط الأمر عليّ، أأبكي أم أصرخ كالمجنون؟ صرخت باكيا “أبعدوه عني .. لا .. لا .. بالله عليكم .. (ضاق مجرى الهواء إلى صدري) .. لم أعد أحتمل .. أخرجوني .. لا .. لا ..” و ما إن شبع حتى أخرجوه وأنا منبطح على الأرض كالحِلث البالي، كالممسحة، كقطعة لحم مقدّدة، و دمي الأزرق يسيل كالنهر، و شراييني تعلن حالة إستسلام عام. أغمضت عيناي. سمعت كلمات آتية من بعيد ما لبثت أن تلاشت.
إنطق. إنطق. تكلم! يبدو أنه لا فائدة مع هذا الكلب. أخرجوه. إمسحوا فيه الأرض. إشربوا دمه. ضعوه في غرفة الأسلاك الكهربائية…
كنت كصورة معلّقة على حائط يفصل الموت عن الحياة. إستيقظت فجأة بعد حين تحت المطر. نظرت حولي. أين المطر؟ أين أنا؟ من هؤلاء؟ سمعت أصواتا من هنا وهناك: “تكلم. إنطق. إنطق.” حضنني أحدهم بشيىء كاد يلفظ روحي مني. ثم تركني و قال: “ألن تتكلم يا سافل؟” أعاد الكرّة ثم أعاد الكرّة. حضرَتْ صورة مضطربة في بالي. إبتسمت دون أن تبين الإبتسامة على وجههي، ورحت ألفظ ببطىء كلمات خرجت من صلب مخّي: “ما أنا بناطق. ما أنا بناطق.” ثم شعرت أن شيئا ما إلتصق بجسمي. بإسم اللاإرادة، بدأت أرقص رقصة شيطانية – رقصة تحسدني عليها الشياطين. غنيت باللغة العبرية التي لم أحكيها قط – أغنية يحسدني عليها الحسّون المجنون. تكهْرَبَ مزاجي. ظللت أرقص و أغني على هذا الإيقاع لدقيقة ثم همدتُ كالجثّة. إرتخى عقلي بعد أن تمزق فيه شيىء ما. إنطفأت عيناي. نشب صراع بين نفسي و نفسي على الحياة. و لا أدري ما الذي حدث بعد ذلك.
و مضى قرن من الزمن. إستيقظتُ فجأة تحت المطر. أين المطر؟ أين أنا؟ عدت إلى شبه الواقع. و بدأت لي الحياة كأنني أعيشها في خيالي. سمعت صدى كلمات لم أفقه معناها: “إنطق. من وراءك؟ إنطق يا إبن –”
شيىء ما راح ينهال على خدي كالسكين. فقدت الشعور بالألم. نطقتُ بالدم. ثم إلتصق ذلك الشيىء مرة أخرى بجسدي. رقصت. غنيت باللغة العبرية. سمعت صوت التمزق في عقلي. شعرت أن نسمة مقدّسة إنسلخت عني. ظلّت معلقة بأطرافها. ثم ظل ذلك الشيىء ملتصقا بجسمي. ثم ظل ملتصقا و ملتصقا و ملتصقا. لم أعد أرقص. إعتزلتُ الغناء. إنسلخَتْ نهائيا – إلى يوم القيامة.