إنسان قرر يوما أن يكون فقيرا و آخر فرض عليه الفقر، وبين هذا وذاك يعيش الأغنياء حياة مليئة بالرفاهية. هناك مشاهد نمر عليها في حياتنا فتعلق في أذهاننا فتصحبنا مدى العمر، منها السعيد و منها الحزين.
المشهد الأول
نزلة يعقوبيان – شارع الحمرا – لبنان. كنت حينها أعمل لصالح جريدة البلد و كنت قاصدا ذلك المكان لإتمام مهمتي. وإذ بي ألمح من بعيد رجل عجوز يجلس إلى جانب مستوعب للنفايات. و كان يبحث عن شيىء بلهفة! لعله من هؤلاء الناس الذين يبحثون عن القطع الحديدية و النحاس ليعيدوها للمصانع فيؤجرون عليها، أو لعله … لحظة! لكن لم أن لأتوقع أنه يبحث عن طعام، فاقتربت منه فإذا به قد وجد بقايا من قشر الليمون فأخذ يمصّها ويعتصرها بفمه مغمضا عينيه، كأنه للمرة الأولى يتذوق فاكهة لذيذة في حياته!
لم أتحمّل المنظر، فهرعت إلى أقرب محل لبيع السندويشات و طلبت واحدة على الفور و عدت، و خلال خمس دقائق غبتها عن مسرح الفاجعة، كان الرجل قد اختفى!
المشهد الثاني
جسر الكولا – بيروت – لبنان. تحت الجسر مباشرة، كان يقطن رجل في الخمسينيات من عمره. كل يوم أمر بجانبه متجها إلى جامعتي، فأراه جالسا على بطانيّة افترشها على الأرض و من حوله علب طعام و زجاجات عصير و ماء مرمية هنا و هناك، و شراشف مطمورة في الوحل .. وفي يده سيجارة يدخّنها بشوق و لهفة، و شعره الأبيض المصفرّ يتدلى على خدّية و جسمه البدين.
كان يرفض أي عرض للمساعدة في أخذه إلى مأوى العجزة، و كان أمله الوحيد الحصول على علبة سجائر.
رائحة المكان الذي افترش فيه بطانيته نتنة. كنت أتساءل دائما عن مكان قضاء حاجته. كان ينام و السيارات تمر فوق الجسر و إلى جانبه ليل نهار. وفي يوم من الأيام مررت به أنا و صديقي فوجدنا رجله قد أصيبت بجرح بالغ، و كان منظرها مخيفا و مقرفا. إقترحنا على زملائنا و زميلاتنا في الصف أن نجمع مبلغ من المال و أن نجلب له الأدوية اللازمة. فكتبت أنا وصديقي منشورا (لازلت أحتفظ بنسخة منه) وزّرعناه على زملائنا في الجامعة فجمعنا مبلغا بسيطا اشترينا له فيه الأدوية و المعقّمات ليداوي رجله.
الرجل مريض جسديا و عقليا، و لا أثق بما يقول، لكن فضولي أخذني لأن أسأله عن حياته، فسرد لنا القصة… يقول إنه كان غنيا و يعمل في أهم الفنادق في دول عربية كثيرة. و كان مدمن خمر و زير نساء و لاعب قمار، ثم خسر كل أمواله، فأردفته زوجته من المنزل فعاش متشردا في شوارع بيروت. عُرض عليه أن ينام في مأوى لكنه رفض.
إختفى الرجل منذ مدة! إما أنه إنتقل إلى شارع جديد، و إما إلى ربّه. و هكذا إنتهت قصتة.