ما إن فُتح باب الباص حتى خرج منه كالعصفور ذلك الفتى بالزي الوردي الملوّن. راح يركض و يركض و يصرخ بأعلى صوته و يحلّق بحقيبته في الفضاء ضاحكا “لقد عدت لقد عدت يا أمي”. وجهه المشرق بالبراءة والمليىء بالطفولة رسم إبتسامة على وجه أمه التي فتحت له الباب. قابلته أمه بحرارة شديدة “إنتبه يا عمر يا حبيبي للبلاط فقد نظّفته للتو”. ولج عمر كالأصم إلى المنزل متجاهلا مشاعر أمه نحو البلاط وراح يقفز من مكان إلى مكان حتى بدأ صراخ أمه يعلو “توقف! واجلس إلى طاولة الغداء … ياه! ما بال وجهك أسود وشاحب؟”. وقف هنيهة عمر و مسح وجهه مستغربا ثم نظر إلى المرآة “ربما لامس وجهي الحديد في الباص” وركض نحو أمه وأحاطها بيديه “أحبك يا أمي”. خلع زي المدرسة و رماه على الكنبة “لا أريدك أن تطعميني. سآكل لوحدي”. أخذت أمه زي المدرسة عن الكنبة لتغسله “ستوسّخ ثيابك. أنا سأطعمك”. نظر عمر إلى طاولة الغداء “كلا كلا لا أريد هذا. أريد أن آكل لوحدي و لن أوسخ ثيابي. أرجوك. دعيني آكل لوحدي”. لم تردّ, فانقضّ على الطعام يأكل و يقصّ على أمه ما جرى في المدرسة “أتريدين أن أتلو عليك القصيدة التي تعلمناها اليوم؟ إسمها: أمي”. خرجت الكلمة الأخيرة من فمه مشوّهة و ممضوغة.
جلست أمه بجواره على الكنبة وأشعلت سيجارتها و انغمست في إنصات عميق و أدار عمر وجهه نحوها قائلا “لقد قالت لي المعلمة اليوم أنني ولد ذكي لأنني كنت الوحيد الذي يحفظها في الصف. وختمت على يدي نجمة زرقاء. هل ترينها؟” ذهب عمر ووقف أمام أمه و كشف عن يده “إنها هنا. أليست جميلة؟” لمحت أمه النجمة “ما أجملها. هيا إذهب وكل طعامك”. عاد إلى كرسيه و ارتفع صوته “أحن إلى خبز أمي و قهوة أمي. أحنّ إلى خبر أمي وقهوة أمي–“. شرب القليل من العصير الجاهز (البيبسي كولا) ثم أكمل “و تكبُر فيّ الطفولة يوما –“. سكت وراح يفكر ويكلم نفسه حتى انغمس في التفكير ثم سكت فلم يعد يُسمع في البيت غير عقارب الساعة تتكّ كل ثانية. تِك تَك تِك تَك تِك تَك تِك تَك. لم يعرف ما هي تكملة بيت الشعر فارتبك فسأل أمه بخجل “هل أعجبتك القصيدة؟ لقد نسيتها”. تعمّقت أمه في التفكير و علا صوت العقارب فقالت له من أعماق ذاكرتها “نعم”. فرح عمر “قالت لي المعلمة أنني مجتهد وأنني في المرة المقبلة سأحصل على نجمتين إن إستمرّيت أحفظ بهذا الشكل. كانت تؤلمني بطني اليوم وشعرت بالبرد” قالت أمه “لماذا؟” أجابها “لا أدري وقد خرجت من الصف وشربت الشاي. لماذا دائما أشعر بالبرد؟” أجابت بسرعة “لأنك لا تتغطى باللحاف. سكت قليلا “كيف هذا؟” ثم سكت قليلا “سأخبرك عندما قام صديقي مازن ليسمّع القصيدة كان يقول أحنّ إلى قهوة أمي وقهوة أمي فضحكنا جميعا ههههه”. نظر عمر إلى الساعة المعلقة على الحائط “أمي، لست جائعا. أريد أن أشتري السكاكر”. فكّرت جيدا “لا. كل طعامك أولا” فأحسّ عمر بألم شديد. وضع يده على معدته و هرع مسرعا بشكل مفاجىء إلى الحمام. قالت له “لا تشتري السكاكر لأنها تضر بمعدتك” لم تستغرق رحلته إلى الحمام عشر دقائق حتى خرج وهو يبكي فاقترب من أمه. قالت “ما يبكيك يا عمر؟” لم يرد. أعادت السؤال فوضع يده على بطنه “أشعر بألم شديد في معدتي”. لم يسلم من التوبيخ لأنه كان طوال فترة الغداء يُُنشد ويأكل بسرعة دون أن يمضغ الطعام. قالت “تناول حبة الدواء هذه. هل أحضر لك كوبا من شاي النعناع؟” أكمل بكائه “نعم”. أعطته أمه كوبا من الماء “هل عندك فروضا كثيرة ليوم غد؟ إذهب و نم قليلا وتغطى جيدا لكي ترتاح. سألحق بك عندما أحضر لك الكوب” وقف عمر مكانه وقد توقف عن البكاء لكن الألم بادي على وجهه “هل تريدني أن أغطيك أنا باللحاف؟” أشار برأسه أن نعم، فأخذته إلى غرفة نومه و غطّته باللحاف جيدا وعادت لتجلب له كوب الشاي. غابت قليل. حضّرت كوب الشاي وأتت به “هيا إشرب يا عمر” فوجدته قد أغمض عينيه و نام وجسده يرتجف تحت اللحاف. وضعت يدها على جبينه الذي بدا كليلة شتاء في شمال لبنان. أحسّت قلبها يخفق بسرعة. وضعت كوب الشاي جانبا و خلعت نعليها و تمدّدت إلى جانبه و حضنته حتى شعرت بدفء شديد جعلها تقوّي قبضة أصابعها على جسد عمر. إستقيظت بعد نصف ساعة لترى أنها قابضة على كتلة من جمر.